04‏/07‏/2008

كش ... مات



الوزير الأسود في وجه الملك العجوز، يالها من مواجهة عصيبة.
الفيل يحتل الوتر الأبيض، والرخ على رأس عمود الملك الكهل لا يفصله عنه سوى بيدق ضعيف سلاحه الوحيد حزام ناسف حول خصره.
الحصان يتكاتف مع ملكه ويشكلان خطراً داهماً من الجهة التي كان يوجد بها الوزير الأبيض الراحل، والمأسوف على أمره.


ياله من موقف عصيب،.. وغريب في ذات الوقت، بداية الدور لم تكن تنبأ أبداً عن النهاية التي آل إليها، قطع الأسود تحاصر الملك العجوز الواقف خلف فلوله وكتائبه عاجزاً عن رد هذا الهجوم الماكر.


حدق في رقعة الشطرنج.. وتطلع إلى قطعه المتهالكة والمنتشرة بلا فائدة كغثاء السيل، وبكل العافية الباقية في ذراعه الواهن، وبكل الشجاعة التي وهبه الله إياها مد أنامله المرتجفة والتقط الملك، حاول أن يخفيه بعيداً عن فوهات المدافع، وقصف الطائرات، وقناصات العدو، حاول أن يقصيه بعيداً عن أذرع الجرافات قبل أن تهدم قصره فوق رأسه.
حاول.. لكنه فشل، في سرعة البرق تحرك الوزير الأسود بضع خطوات قاتلة..
- كش مات
حدق في الرقعة مرة أخرى وراح يتأمل.. أربعة وستون مربعاً ولا مخرج؟.. مستحيل.. لابد أن يكون هناك حل..
اعتصر تفكيره حتى النخاع دون طائل، لكنه رفض الاستسلام، وبداخله شعور دفين بأن هناك مخرج ما لكن عيونه لا تراه.


غريمه يبتسم في غرور وزهو، عاقداً ذراعيه أما صدره، منتشياً بالنصر الذي ساقه الحظ إليه، وبات وشيكاً إن لم يكن قد تحقق بالفعل، وصاحبنا مازال غارقاً في أفكاره وأوهامه بالمخرج المذعوم..


حاول الابتعاد بأفكاره قليلاً عن الدور في محاولة للهدوء والتركيز أكثر، أشار إلى نادل المقهي يستعجله بالمشاريب، ثم التفت جهة اليسار يتطلع إلى قسماته وملامحه التي تطالعه فوق صفحة إحدى المرايا التي تلف حوائط المقهى. 

لم تعد في رأسه شعرة واحدة سوداء، التجاعيد أصبحت كالموج الهادر في بحر وجهه الذي نهلت منه السنين ما نهلت، أخرج من جيبه صورة فوتوغرافية قديمة..

جسداً ممشوقاً يافعاً، وذراعان تنفر فيهما العضلات، وملامح وسيمة تفيض بالشباب والحيوية، وامرأة فاتنة تتأبط ذراعه.. ابتسم في سخرية وقال:
- كان زمان .
باءت محاولته للهدوء بالفشل، فشرع يقلب في مخزن ذكرياته عله يجد شيئاً مفرحاً..


- هنحارب.. هنحارب..
لا يدري لمَ راح يتردد هذا الهتاف في أذنيه، هو.. محمولاً على الأكتاف.. يهتف والجموع من خلفه.. هنحارب .. هنحارب،  مرارة هزيمة يونيو مازالت في حلقه، ونشوة الانتصار لم تعرف إلى قلبه سبيلاً، مات عبد الناصر.. مات الرجل الذي كان إذا تكلم.. صمت الجميع، صوت العندليب.. مازل يملء مسامعه:
- مين اللي قال كنتِ بعيدة عنى .. وانت اللي ساكنة في سواد النني.
عبد الراضي.. صديق عمره الذي راح شهيداً على أرض سيناء.، محاسن.. حبيبته وزوجته وأم أولاده.. لم يعجبها الحال، أخذت الأولاد وذهبت إلى أهلها في الصعيد.. قالوا له:
- لو حاولت تقرب من الأولاد هانكسر رجلك.
العلم المصري يرفرف فوق أرض طابا.. والعلم الإسرائيلي يرفرف في قلب قاهرة المعز.. لم تغير الهتافات شيئاً.. ولم يعثر في صندوق ذكرياته على شيئاً مفرحاً يُساعده على الخروج من حالة الضيق التي كان يعالجها في تلك الأثناء.


تنبه غير واعِ على يد تربت على كتفه، أعقبها صوت أجش:
- موقفك عصيب.. انصحك بالاستسلام..
دوت كلمة الاستسلام في اذنيه كأنها قصف رعد، التفت إلى صاحب الصوت الذي همَّ بالجلوس مسندا عصاته إلى حافة الطاولة متسائلاً:
- مع من تلعب اليوم؟
فنظر صاحبنا نحوه واليأس يطل من عينيه وقال:
- مع نفسي.. ورغم ذلك.. كما ترى.
ابتسم صديقه وقال بنبرة بحاء:
- هيا بنا نستنشق بعض الهواء.. واترك هذا الدور.. فإنه منتهي.


فكر قليلاً ثم هز رأسه إيجاباً على مضض، تناول عصاته.. وهمَّ بالنهوض. لكن نظرة أخيرة على رقعة الشطرنج جعلت عيناه تلمع في ذهول.. فصرخ:
- ها هو المخرج....


هناك 12 تعليقًا:

dreem يقول...

مع الاسف ماليش فالشطرنج !
او يمكن انا بحس الكلام ما بفهمهوش
وانا حساه جميل اوى ومليان تفائل وكتير امل بالرغم من حاجات كتير.
ربنا يزيد حياتك اشراقا
تحياتى

mostafa rayan يقول...

حلوة قوي التدوينة دي
بس فين المدونة التانية بتاعة المهاجر وقهوة محروس

هاني النجار يقول...

أختي الكريمة حلم

مش عارف منين جالكِ إحساس بإن القصة تفاؤل ؟!! .. يمكن إحساسكِ غرد خارج السرب شوية ،

على كل حال مروركِ دائماً يسعدني جداً

ولكِ التحية

هاني النجار يقول...

أولاً مبروك يا درش تصليح الجهاز ..
أنا عرفت وقلت اروح اشرب شاي في مدونتك .. والمشاريب عليا يا عم

قهوة محروس كان جاي لها قرار إزالة .. لكن الحمد لله اتفقنا مع البلدية في عمل تجديدات وصيانات بها .. وهما هايسحبوا القرار :)

dreem يقول...

هيا بنا نستنشق بعض الهواء .. واترك هذا الدور .. فإنه منتهي
فكر قليلاً ثم هز رأسه إيجاباً على مضض ، تناول عصاته .. وهمَّ بالنهوض . لكن نظرة أخيرة على رقعة الشطرنج جعلت عيناه تلمع في ذهول .. صارخاً :
- لا لم ينتهي الدور .. ها هو المخرج .

الهدهد الطائر يقول...

هي حقيقة.. كثير من الرجال يأبى و إلا أن يدور في دائرة مفرغة.. دائرة يصوغها الأمل الذي لا يتحقق أبدًا.
فلا يوجد دليل على الفشل و لا دليل على النجاح فيظل هائم بين ذلك و ذاك.
فقد تحدث المعجزة.. أو كما يظن.. يجب أن تحدث المعجزة.

.....تحياتي........

هاني النجار يقول...

معاكِ حق يا أخت حلم
لكن شوفتِ أخونا الهدهد فهمها ازاي !!
هو فهمها صح

تقدري تقولي على الجملة الأخيرة دي أنها أمنية مش أكثر .. أمنية لإيجاد مخرج من الوضع اللي احنا فيه كعرب ...
كش مات في لعبة الشطرنج بتتقال لما الدور بيخلص .. ادعي معايا ان الدور ما يكون خلص

هاني النجار يقول...

أخي الحبيب الهدهد

ما شاء الله .. بالضبط ، أحن منتظرين معجزة .. في زمن انتهت فيه المعجزات

لك خالص الشكر التحية

dreem يقول...

secret love
النهاردة اول مرة اخد بالى من المقطوعة الموسيقية اللى انت حاططها وياله من اختيار احييك عليه

هاني النجار يقول...

ما شاء الله
الظاهر إني أمام عقلية موسيقية نادرة لدرجة أنكِ يا أخت حلم عرفتِ أسم المقطوعة
أنا اللي لازم أحييكِ على ثقافتكِ

ضــى القمــر يقول...

وصف دقيق بكلماتك لا تخرج إلا من عقليه نادرة .. وصف بها ذرة أمل مخفيه .. أو نسبه محاوله لكنها محاوله بدون اى نجاح محتمل .. لكن هذا وصف واقعنا بحق .. نعتقد أن امامنا محاولات كثيرة للنجاح وتخطى الأنكسار .. مع العلم أننا نملك من المحاولات صفر لا اكثر ..

شكرا لك ولروعه وجهة نظرك هنا ..

كن كما انت دائما يا اخى .

هاني النجار يقول...

أهلاً بأختنا ضي القمر صاحبة الغياب الكثير والطويل أيضاً

تمام .. هى بالفعل ذرة أمل أو ربما أقل ، لكننا لا نملك سوى التمسك بها عل الغد يأتِ بما هو خير

الشكر لكِ يا ضي على مروركِ
وأرجو ألا تحرمينا إياه

لكِ التحية