10‏/07‏/2008

بالأمس رأيتكِ في أحلامي






كنا نرقص.. نرقص في الشوارع كالمخمورين، وكنت غضة، نضرة، تغار منك الورود التي كانت منقوشة فوق فستانكِ الوردي الفضفاض.


نعم.. كنا نرقص، رقصات مجنونة، وكأننا انفلتنا للتو من زنزانة الكبت والحرمان..
كنا نرقص.. هذا كل ما أذكره، لكني استيقظت وفوق ثغري ابتسامة رضى عجيبة.. تحولت بعدما تذكر بعض التفاصيل الغائمة إلى ضحكة متوارية خلف شفاهي.


ملامحكِ كانت تداعب نظراتي، وكنت لا أشعر بوزني وكأن الجاذبية قد انعدمت فوق سطح كوكب خرافي هائماً في سديم الكون، عدد سكانه يساوي اثنان.. أنتِ وأنا، وزهرة برية.. تلمع في الفضاء البعيد.. تعكس ضربات اليأس الموجعة إلى نفحات عطف وهدوء.. وعصف بالضحكات موبوء.. وعمرِ جديد.


نازعتني أفكاري المشتتة، وذكرياتي المتضاربة بين دهشتي وجنوني، وسؤالي الحائر لعيون لم تراكِ إلا الآن بينما كنتِ أمامي منذ عشر سنوات متوارية خلف قصص الحياة الماجنة، وتقارير اليأس المتوالية فوق سيفي الخشبي المتصارع وطواحين الهواء.


نعم كنا نرقص.. رغم أني لست من هواة التعبير عن السعادة بهذا النوع من الفن، فلماذا رأيتكِ على هذا النحو متمايلة مع النسمات بين يداي تارة إلى اليمين.. وأخرى إلى اليسار؟


كنتِ كطفلة ذات الجدائل.. تجري خلف بالونها المزركش، بينما أعالج أنا سكرات موت حياة حفها طمع الرجاء  ودق نفير الرحيل، وأعلنت الهجرة موعد الارتحال إلى غد يملؤه صوتكِ العذب، وضحكاتكِ الساحرة، إلى مهد بين يديك يتأرجح بأضواء باهرة، إلى بوابة زمنية مسطور حروفها في دفتر المقادير بنقوش إغريقية.


بالأمس رأيتكِ في أحلامي.. واليوم أرى أحلامي متمركزة كجيش من المومياوات التي أعادت لها الحياة ترنيمة كانت منقوشة لآلاف السنين فوق جدار الذكريات الرابض في قاع المحيط.


بالأمس رأيتكِ في أحلامي.. واليوم أرى أحلامي بين عينيكِ التي طالما مدت جسورها نحوي، وأنا غافلاً أمد الطرق في صحراء جدب لا يسكنها سوى الضباع والأفاعي، والأشباح الحائمة،
في ليل سرمدي .. لعهود آثمة.


04‏/07‏/2008

كش ... مات



الوزير الأسود في وجه الملك العجوز، يالها من مواجهة عصيبة.
الفيل يحتل الوتر الأبيض، والرخ على رأس عمود الملك الكهل لا يفصله عنه سوى بيدق ضعيف سلاحه الوحيد حزام ناسف حول خصره.
الحصان يتكاتف مع ملكه ويشكلان خطراً داهماً من الجهة التي كان يوجد بها الوزير الأبيض الراحل، والمأسوف على أمره.


ياله من موقف عصيب،.. وغريب في ذات الوقت، بداية الدور لم تكن تنبأ أبداً عن النهاية التي آل إليها، قطع الأسود تحاصر الملك العجوز الواقف خلف فلوله وكتائبه عاجزاً عن رد هذا الهجوم الماكر.


حدق في رقعة الشطرنج.. وتطلع إلى قطعه المتهالكة والمنتشرة بلا فائدة كغثاء السيل، وبكل العافية الباقية في ذراعه الواهن، وبكل الشجاعة التي وهبه الله إياها مد أنامله المرتجفة والتقط الملك، حاول أن يخفيه بعيداً عن فوهات المدافع، وقصف الطائرات، وقناصات العدو، حاول أن يقصيه بعيداً عن أذرع الجرافات قبل أن تهدم قصره فوق رأسه.
حاول.. لكنه فشل، في سرعة البرق تحرك الوزير الأسود بضع خطوات قاتلة..
- كش مات
حدق في الرقعة مرة أخرى وراح يتأمل.. أربعة وستون مربعاً ولا مخرج؟.. مستحيل.. لابد أن يكون هناك حل..
اعتصر تفكيره حتى النخاع دون طائل، لكنه رفض الاستسلام، وبداخله شعور دفين بأن هناك مخرج ما لكن عيونه لا تراه.


غريمه يبتسم في غرور وزهو، عاقداً ذراعيه أما صدره، منتشياً بالنصر الذي ساقه الحظ إليه، وبات وشيكاً إن لم يكن قد تحقق بالفعل، وصاحبنا مازال غارقاً في أفكاره وأوهامه بالمخرج المذعوم..


حاول الابتعاد بأفكاره قليلاً عن الدور في محاولة للهدوء والتركيز أكثر، أشار إلى نادل المقهي يستعجله بالمشاريب، ثم التفت جهة اليسار يتطلع إلى قسماته وملامحه التي تطالعه فوق صفحة إحدى المرايا التي تلف حوائط المقهى. 

لم تعد في رأسه شعرة واحدة سوداء، التجاعيد أصبحت كالموج الهادر في بحر وجهه الذي نهلت منه السنين ما نهلت، أخرج من جيبه صورة فوتوغرافية قديمة..

جسداً ممشوقاً يافعاً، وذراعان تنفر فيهما العضلات، وملامح وسيمة تفيض بالشباب والحيوية، وامرأة فاتنة تتأبط ذراعه.. ابتسم في سخرية وقال:
- كان زمان .
باءت محاولته للهدوء بالفشل، فشرع يقلب في مخزن ذكرياته عله يجد شيئاً مفرحاً..


- هنحارب.. هنحارب..
لا يدري لمَ راح يتردد هذا الهتاف في أذنيه، هو.. محمولاً على الأكتاف.. يهتف والجموع من خلفه.. هنحارب .. هنحارب،  مرارة هزيمة يونيو مازالت في حلقه، ونشوة الانتصار لم تعرف إلى قلبه سبيلاً، مات عبد الناصر.. مات الرجل الذي كان إذا تكلم.. صمت الجميع، صوت العندليب.. مازل يملء مسامعه:
- مين اللي قال كنتِ بعيدة عنى .. وانت اللي ساكنة في سواد النني.
عبد الراضي.. صديق عمره الذي راح شهيداً على أرض سيناء.، محاسن.. حبيبته وزوجته وأم أولاده.. لم يعجبها الحال، أخذت الأولاد وذهبت إلى أهلها في الصعيد.. قالوا له:
- لو حاولت تقرب من الأولاد هانكسر رجلك.
العلم المصري يرفرف فوق أرض طابا.. والعلم الإسرائيلي يرفرف في قلب قاهرة المعز.. لم تغير الهتافات شيئاً.. ولم يعثر في صندوق ذكرياته على شيئاً مفرحاً يُساعده على الخروج من حالة الضيق التي كان يعالجها في تلك الأثناء.


تنبه غير واعِ على يد تربت على كتفه، أعقبها صوت أجش:
- موقفك عصيب.. انصحك بالاستسلام..
دوت كلمة الاستسلام في اذنيه كأنها قصف رعد، التفت إلى صاحب الصوت الذي همَّ بالجلوس مسندا عصاته إلى حافة الطاولة متسائلاً:
- مع من تلعب اليوم؟
فنظر صاحبنا نحوه واليأس يطل من عينيه وقال:
- مع نفسي.. ورغم ذلك.. كما ترى.
ابتسم صديقه وقال بنبرة بحاء:
- هيا بنا نستنشق بعض الهواء.. واترك هذا الدور.. فإنه منتهي.


فكر قليلاً ثم هز رأسه إيجاباً على مضض، تناول عصاته.. وهمَّ بالنهوض. لكن نظرة أخيرة على رقعة الشطرنج جعلت عيناه تلمع في ذهول.. فصرخ:
- ها هو المخرج....