24‏/02‏/2009

غُصة الكتمان.. ومرارة الإفصاح








تساءلت.. وهي تتأرجح بين غصة الكتمان، ومرارة الإفصاح،  كيف تقاوم ذلك الإحساس الذي داهم قلبها وتسرب إليه في خفة؟ كيف تقاوم ذلك الحب الذي يضج في جسدها المتخم بالحرمان؟ كيف تقاوم ميلها الجارف نحوه؟..
فهو من أحبته، وآثرته دون غيره ممن تهافتوا تحت قدميها، هو من أجج في قلبها مشاعل الحب ليخفق باسمه؛ فتنام على صورته، وتصحو على نبرات صوته، هو من مَلك جوارحها، وتسلل إلى أعمق أعماق قلبها ليسكن دمها، هو من حرك داخلها آلة الحب الصدئة، وأشعل خلجات نفسها العطشى بناره.

لكن صمته وشروده الدائمان جعلاها فريسة لحيرة ليس لها مثيل، جعلا مشاعرها وأحاسيسها تتخبط في تباين مستمر؛ فتارة تكون على يقين بأنه غارقاً في لجة حبها مثلما هي ذائبة في بوتقة حبه، وتارة تشعر من قسوته المُصطنعة، وحدته المُفتعلة، وجفائه الذي كان يتكبد مشاقاً هائلة في سبيل إظهاره أن بينها وبين قلبه ملايين المسافات.

وعلي حين غرة.. وبينما هي حالمة تهوم في أجواء حبه؛ داهمت ملامحها انفعالات حادة حين تذكرت أنه قد حقق حلمه القديم ورحل.. حلمه الدائم بالرحيل قد تحقق أخيراً.
إلى أين؟... لا تدري. كيف؟... أيضاً لا تدري. متي؟... ربما في اللحظة التي علم فيها أن حبه لها حقيقة تنبض في صدره، وليست سحابة صيف كما كان يعتقد، وجاءت اللحظة وهرب منها إلى الأبد وهي ذاهلة.. تتأرجح بين غصة الكتمان، ومرارة الإفصاح.


***

لم تكن تدري أنها تسكنه، تسبح في عقله ووجدانه ومشاعره، لم تكن تدري أنها سحرته من أول لحظة إرتشقت فيها عينيها بعينيه المُغيبة في عتمة الواقع ومرارته، ملأت خواء صدره الخرب بإحساس طالما احترق شوقاً إليه، ألهبت وجدانه.. أشعلت النار في عواطفه التواقة للحب، جعلته يرحل في براح إشراقها ونضارتها مجتازاً لحدود الزمن، عابراً فوق الآمه وأحزانه.. وهى لا تدري.
لا تدري أنه يشعر في اللحظات التي يقضيها بجوارها أن العالم قد خلا من أهله، وأن الزحام قد فض من حولهما، وأن عمره بطوله وعرضه هو فقط تلك اللحظات.
أحبها بكل فرائسه، ودخل أسرها منساقاً أمام قوة لا تُقاوم، فكانت أول من سكن قلبه، واستقرت تتفيء ظلال إحساسه الدفيء.
تكسرت فوق أهدابها عزيمته، واعترف لأول مرة بالهزيمة التي لم تعرف إلى قلبه سبيلاً من قبل.
كان يشعر وهي بعيدة عنه أنه غائباً عن الوجود بلا معنى، أن أحاسيسه تبلدت، وقلبه لم يعد يخفق، أن نظراته تندفع عشوائياً بغير هدف تبحث عنها، أن الطعام ليس ذا طعم.. والنوم ليس له جدوى.
ورغم ذلك، ورغم تلك العاطفة التي كانت تجيش بقلبه؛ آثر الهرب، آثر أن يطوي القلب على أسراره، ويُخفي آتون حبها ليحرقه وحده، آثر ألا يعذبها معه، ألا يتناول يدها ثم يتركها في نصف الطريق، آثر أن تزيد عذاباته واحدة، وأن يسكن صحراء الوحدة بعيداً عنها.
احترف الهرب حتى من نفسه.. فكان يخرج وحيداً بلا هدف ولا وجهة تستقبله، يقفز في سيارة لا يدري إلى أين تأخذه؛ ينظر عبر زجاجها فيراها أمامه تحدثه وتجري ملامحها بطول الطريق، يجلس أمام البحر الهادر الخفاق فيراها تلوح من بين الأمواج، يقف صامتاً واجماً شارداً بينما عبيرها يتهادى مع شلال الماء المندفع عبر الصنبور، يغلق عينيه فيراها تتمايل في براح العتمة.
شيء لم يصدقه،.. لم يصدق أن هناك امرأة تحتله، أن هناك امرأة جعلته كالمجذوب في حبها لا يرى سواها. ولا يشعر بغيرها.


***

حين همست تبارك يوم زواجه نظر في عينيها بعمق، وحملق في ذلك الشيء المهيب ثم أغلق عينيه، وصّر على أسنانه بعنف، ود أن يصرخ في وجهها ويبوح بمكنون صدره، لكن القدر ألجم لسانه، وكبله فسكت على مضض.
أخفى تلك النيران التي احتدمت في صدره، أخفي ذلك البركان الذي ثار في قلبه، ووارى عن أعين الناس عيناه، لكنه لم يصمد طويلاً.. هزمته الحقيقة فصدقها مبهوتاً، وراح يتأرجح بين غصة الكتمان.. ومرارة الإفصاح.