29‏/10‏/2012

سنة أولى تدوين







أهم ما يميز هذا العالم الرقمي الذي سحب البساط من تحت أقدام العالم الواقعي أنه لا يخضع لسلطة رقابية من أي نوع تفرض على القلم سياجات من قواعد هي في حد ذاتها مقيدة لمعنى كلمة حرية الإبداع.
وهكذا ينفصم أي من يحاول خلق شيء غير مسبوق عن عالمه القديم المقيد للحرية نحو عالم منفتح يرتع فيه كيفما يشاء، ويصدح بما يشاء.

فبعد المجموعات الإخبارية كانت مرحلة المنتديات الرقمية، وكلها كانت اللبنة الأولى في إنشاء مجتمع معلوماتي اجتماعي يتبادل أفراده شتى صنوف التواصل دون أن يرى أحدهم الآخر، وبذلك أخذت الفكرة محل التطبيق في تحويل العالم الواقعي إلى عالم افتراضي يحاكي كل الأنشطة البشرية، من مشاعر الصداقة والألفة والحميمية، إلى المعاملات المالية ومضاربات الفوركس التي تحاكي البورصة.

إن هذا المجتمع الافتراضي قد نجح إلى حد بعيد في اعتقال أفراده خلف شاشات ضيقة صنع منها نوافذ عظيمة الاتساع تطل على كل شبر فوق أرض المعمورة، وتطلع على خلجات نفوس ودقات قلوب رواده والهائمين في فلكه.

عالم التدوين هو إحدى حلقات هذا المجتمع الأثيري الذي شاء لي القدر أرتياده في مهده، أي في السنوات الأخيرة من القرن العشرين فأصبحتُ واحداً ممن شهدوا ميلاد هذا المجتمع الجديد، ورأوا بأعينهم كل التحولات التي صنعت منه واقعاً ملموساً، حقيقة لا يمكن التغاضي عنها بأي حال من الأحوال.

عالم التدوين هذا كان الحلقة الثالثة على وجه التقريب، وفيه راحت فكرة الحرية تتخذ نمطاً جديداً يصل إلى الحرية المطلقة بعد الرقابة التي شهدتها المجموعات الإخبارية، والمنتديات الرقمية التي تشبعت فأفكار الحكومات العربية، وشرعت تؤسس لنفسها دستوراً خاصاً جعل غالبية المبدعين يهاجرون عنها لأن الإبداع عدوه الألد هو الرقابة والقيود لاسيما وإن كانت هذه القيود من صنع عقول انغمست في الجهل والتخلف والتهميش عقوداً طويلة، ووجدت لنفسها المكان المناسب لفرض سطوتها وتحرير عقد النقص وتفريغ شحنات الكبت.

كنت قد تأخرت إلى حد ما عن دخول عالم التدوين، في الوقت الذي كنت فيه أتساءل أليس من سبيل للتحرر من قيود الرقابة التي لا تكف عن فرض سطوتها؟ وفي يونيو – حزيران –  من عام 2006 شاءت الظروف أن أتعرف على هذا الملكوت الذي كان موجوداً فيما كنتُ أبحث عنه، وفي الشهر ذاته سجلتُ أول مدونة لي – والتي لا تزال قائمة إلى اليوم رغم أنها مهجورة منذ سنوات – وبذلك تلمست خطواتي الأولى في عالمي المفرط في الحرية، هذه الحرية منوط بها إيصال معنى أو إبراز فكرة قد تجرّ على صاحبها الويلات، ولكن كل شيء يهون طالما ابتعدنا عن عقول حجرية، فإن كنت تعترض على ما أكتب فهذا حقك، ولكن ليس من حقك حذف ما كتبت بحجة أنه لا يوافق ميولك الشخصية، أو لا يجاري وجة نظرك. 

أليس من حقي قول ما أريد متى أردت؟ إذن هى وجهات نظر وليست أكثر، أن أقول ما أريد واعترض أنت ما شئت، في هذه الحال سوف نجد فرصة للحوار. 

كنت منتشياً بحريتي الكاملة التي ساقها القدر نحوي، حتى اكتشفت أن كلها لا تعدو كونها أكثر من أوراق دشت، تلك الأوراق التي نكتب عليها ملاحظاتنا ثم نمزقها لتستقر في سلة المهملات، كل ما كتبت مجرد أوراق دشت لا أدري لمَ ولمن كنت أكبتها؟ لكن الإجابة الأكيدة على هذا التساؤل هو أني كنت ولازلت أكتبها لنفسي، إن كان لها فرصة لتفيد أحد فبها ونعمت، وإن لم يكن فحسبي تلك الانفجارات التي حدثت ولا زالت تحدث في عقلي التواق أبداً للحرية.

هذه المدونة المفرطة في البساطة هى أوراق دشت هامت على وجها منذ أكثر من عشر سنوات في العالم الرقمي، وأوراق أخرى لا تزال معتقلة إما في أدراج مكتبي، أو في ثنايا العقل.