26‏/11‏/2013

أوراق حمراء وخضراء


على كل الأرصفة سألت، في كل الموانيء فتشت، في أعماق البحر، وقمم الجبال، في خبايا المعني المبهم، وبين الحروف ولا أثر، بحثت كثيراً حتى فقدت الأمل.


كان هاهنا في ذات يوم ينبض بالحياة ويموج بالحب، فأين تراه قد ذهب هذا الملعون؟ هل كره هذا الجسد المتخم بالهموم؟ ضاق بقضبان زنزانته الأبديه، ومل إحساس الظلم الذي صار مرارة لا تطاق؟ 


لن ألومك إن فارقت جسدي إلى الأبد، فأنا أيضاً لم أعد بحاجة إليك، لم أعد قادراً على احتمال احساسي بأنك سترحل بلا شك، تاركاً وراءك تاريخ قفص صدري امتلأ بأعشاش العنكبوت، ويضرب فيه النمل جحوراً تصل إلى العمود الفقري.

هذا جسد صار كجزع شجرة يابسة في الخريف، صلبة لكنها جوفاء، فلا تلوم من رماك في غياهب النسيان، فلم يذكر يوماً أحد، ولدت ومت كأنك لم تكن قلباً يسكنه البشر، يعربدون في حاناتك، ويتلون صلواتك، ويسبحون بحبك، ويقسمون على الوفاء.

لا تلوم من هجرك وترك فيك البوم ينعق، فأنت لم تكن يوماً صالحاً لسكنى البشر، كوخ في صحراء مدفون تحت كسبان الرمال، والناس تبحث عن المروج الخضراء، والنهر الرقراق، تبحث عمن يصب في مسامعها كلمات الغزل، ويملك الأرض والسماء، تبحث عن صاحب حصان بموتور حديدي يجري في الشوارع، تبحث عمن يملك الأوراق الخضراء والحمراء.


لا تلوم أحد، فللوفاء ضريبة لا يقدر عليها أحد، لذلك سيكرهون حتى ذكر اسمك، وما اسمك التعس بين اسماء تعطي بلا حساب، وتأخذ بلا حساب، أما أنت أيها الهارب من صفوف فرسان العصور الوسطى، ستبقى كما أنك، دفين همومك التي بلا حد، سجين أحمالك التي تثقل كاهلك، فالمباديء والقيم لا تطعم الآذان الجائعة، والشفاه الجائعة، والأجساد الجائعة.


سيقولون بأنك كاذباً، بأنك مجرم، بأنك وضيع، بأنك تحمل كل أدران البشرية وسقطاطها ليهربوا من ضمائرهم فلا تلومهم، سيقولون بأنك مخادع، بأنك مراوغ، بأنك قاتل، ليوهموا أنفسهم بأن رحيلهم عنك بسببك أنت، فلا تلومهم، واصمت فالصمت لغة بليغة لمن يفهم لغة الأحساس، دعهم يصدقون أنفسهم، فقط اصمت لا تقل شيئاً فأنت لا تملك شيئاً تشتري به القلوب. وإياك أن تظن بأنهم سيرحلون إلى مرافيء جديد، فالمرافيء قديمة، وانت لم تكن يوماً سوى كتلة خشبية تمر بنهر حياتهم. 


إن وجدتك سأقول لك بأني لا أريدك في صدري أيها القلب الجاحد، لم تصدق دموع التماسيح، لماذا؟ فللتماسيح عيون تدمع، لم تشأ أن تحيا في الكذبة الكبري في تاريخ البشرية؟ هل كنت تظن نفسك قلب ملاك؟ رداء يحمي أجسادهم من نار الرغبة؟ هل كنت تظن نفسك حاملاً لمفاتيح المدينة الفاضلة؟ أيها الواهم من يشتريك بخردلة وأنت لا تساوي خردلة، حتى لو كنت تظن بأنهم باعوك على قارعة الطريق فأنت في أعماق الوهم، لم يشتريك أحد كي يبيعك، أنت لا تساوي سوى حفنة من صدق في عالم صار فيه الكذب صدق، حفنة من أمل في بلاد منكسة الروؤس فلا ترى أبعد من أقدامها بقدم.


أنت لا تساوي شيئاً، فلماذا أبحث عنك؟ الجسد الميت لا يحتاج قلباً يضخ الدم في شرايينه، الجسد الميت يهرب منه كل البشر إلا طلاب الطب، ليعلقوه بالكلاليب، ويقطعوه بالمشارط، ويسفكوا منه أخر ثلاث قطرات دم يملكها، قطره ترى مثل زرقاء اليمامة، وقطرة تسمع دبيب الغد، وقطرة تقول بأنه حي .. كالأموات.